دراسات إسلامية 

أحكام البيع بالتّقسيط

ومسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي

(2/3)

 

بقلم : العلامة الفقيه الكبير محمد تقي العثماني

نائب رئيس دارالعلوم بكراتشي / باكستان

 

«ضع وتعجل» في الديون الحالة

     ولكن الذي يبدو أن حكم المنع هذا يختص بالديون المؤجلة . أمّا في الديون الحالّة ، التي لايكون الأجل فيها مشروطاً في العقد ، وإنما يتأخــر المـدين في الأداء لسبب أو آخر، فالظاهر أنه لابأس بالصُّلح على إسقــاط بعض الدين بشرط أن يؤدي المديون الدين المتبقى معجلاً . وهذا قد صرّح به علماء المالكية ، جاء في المدونة الكبرى :

     «قلت : أرأيت : لو أن لي على رجل ألف درهم قد حلّت ، فقلت : اشهدوا إن أعطاني مائة درهم عند رأس الشهر، فالتسعمائة درهم له، وإن لم يعطني بالألف كلّها عليه قال مالك : لابأس بهذا ، وإن أعطاه رأس الهلال فهو كما قال . وتوضع عنه التسعمائة فإن لم يعطه رأس الهلال ، فالمال كله عليه» .

     ثم ذكر مسئلة أخرى من هذا النوع فقال :

     «قلت : أرأيت : لو أن لي على رجل مائة دينار ومائة درهم حالّة ، فصالحته من ذلك على مائة دينار ودرهم نقدا ، قال : لابأس بذلك» (1)

     وقال الخطّاب – رحمه الله :

     «وما ذكره عن عيسى هو في نوازله من كتاب المديان والتفليس ونصه : وسئل عن الرجل يقول لغريمه وقد حل حقّه : إن عجّلت لي كذا وكذا من حقّي فبقيته عنك موضوع إن عجلته لي نقدًا السّاعة ، أو إلى أجل يسميه ، فعجل له نقدا ، أو إلى الأجل ، إلا الدرهم أو النصف أو أكثر من ذلك: هل تكون الوضيعة لازمة ؟ فقال: ما أرى الوضيعة تلزمه إذا لم يعجّل له جميع ذلك . وأرى له الحق على شرطه . قال محمد بن رشد : هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال : أحدها قوله في هذه الرواية ، وهو قول أصبغ في الواضحة . ومثله في آخر كتاب الصلح من المدونة أن الوضيعة لاتلزمه إلا أن يعجل له جميع ما شرط إلى الأجل الذي سمى، وهو أصح الأقوال» (2)

     فهذا تصريح من علماء المالكية في جواز «ضع وتعجّل» في الديون الحالة . ويبدو أن مذهب غيرهم من الفقهاء موافق لهم في ذلك ، فإنهم حيث ذكروا حرمة «ضع وتعجّل» قيدوا ذلك بالديون المؤجلة ، كما هو ظاهر من عبارة الإمام محمد بن حسن في موطأه ومن ترجمة الباب التي عقدها ، وكذلك قيّد ابن قدامة هذه المسئلة بالدين المؤجل (وقد مرت نصوصهما آنفا) ، ومن المعلوم أن مفاهيم كتب الفقه فيها حجّة . فدلت على جواز «ضع وتعجل» في الديون الحالّة . وقال الشيخ وليّ الله الدهلوي – رحمه الله تعالى – بعد ذكر قصة كعب وابن أبي حدرد في وضع نصف الدين : (3)

     «فقال أهل العلم في التطبيق بينه وبين هذه الآثار أن الآثار في المؤجل ، وهذا في الحالّ . وفي كتاب الرحمــة: اتفقــوا على أن مـن كان له دين على إنسان إلى أجل ، فلايحلّ لـــه أن يضع عنه بعض الدين قبل الأجل ليعجّل لـــه الباقي ... على أنه لابأس إذا حل الأجل أن يأخـــذ البعض ويسقط البعض» (4)

     والفرق بين الديون المؤجلة والديون الحالّة ظاهر من جهة أن الدين الحالّ لايشترط فيه الأجل، ولايكون فيها التأجيل حقًا من حقوق المديون ، وبما أن الأجل منتف ، فلايمكن أن يقال إن الحصة الموضوعة من الدين عوض عن الأجل ، فلايكون في معنى الرّبا .

     ومما يجدر بالذكر هنا : أن عقد القرض الحسن لايتأجل بالتأجيل عند الحنفية والشافعيّة والحنابلة ، ويتأجل عند المالكية فقط . قال ابن قدامة رحمه الله:

     «وإن أجل القرض لم يتأجل ، وكان حالاً. وكل دين حلّ أجله لم يصر مؤجلاً بتأجيله ، وبهذا قال الحارث العكلي والأوزاعي وابن منذر والشافعيّ . وقال مالك والليث : يتأجل الجميع بالتأجيل ... وقال أبو حنيفة في القرض وبدل المتلف كقولنا» (5)

     وقال العيني – رحمه الله :

     «اختلف العلماء في تأخير الدين إلى أجل . فقال أبو حنيفة وأصحابه : سواء كان القرض إلى أجل أو غير أجل ، له أن يأخذه متى أحب ، وكذلك العارية وغيرها ، لأنه عندهم من باب العدة والهبة غير مقبوضة ، وهو قول الحارث العكلي وأصحابه وإبراهيم النخعي وقال ابن أبي شيبة : وبه نأخذ . وقال مالك وأصحابه : إذا أقرضه إلى أجل ، ثم أراد أن يأخذه قبل الأجل ، لم يكن له ذلك» (6)

     فعلى قول من يقول : إن القرض لايتأجل بالتأجيل ، يجوز «ضع وتعجل» في القروض ، لأنها من الديون الحالّة التي يجوز فيها «ضع وتعجل» . والأصل فيه حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ دين ، فلقيه فلزمه ، فتكلّما حتى ارتفعت أصواتهما، فمرّ بهما النبيّ فقال : يا كعب! وأشار بيده كأنه يقول : النصف . فأخذ نصف ما عليه وترك نصفًا(7).

الوضع عند التّعجيل من غير شرط

     وكذلك المنع من الوضع بالتّعجيل في الديون المؤجلة إنما يكون إذا كان الوضع شرطاً للتّعجيل. أمّا إذا عجّل المديون من غير شرط ، جاز للدائن أن يضع عنه بعض دينه تبرعًا . وعليه حمل الجصّاص – رحمه الله – الآثار التي تدل على جواز «ضع وتعجّل» . قال – رحمه الله تعالى :

     «ومن أجاز من السلف إذا قال : عجّل لي أوضع عنك ، فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطاً فيه ، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ، ويعجل الآخر الباقي بغير شرط» (8)

«ضع وتعجّل» في المرابحة المؤجّلة

     ثم إن وضع بعض الدين المؤجل بشرط التّعجيل ممنوع في بيوع المساومة ، يعني في البيوع المطلقة الّتي لايعقدها البائع بطريق المرابحة، فيعقد البائع بدون ذكر قدر الربح الذي يريد أن يرابحه عليه . أمّا إذا كان البيع بطريق المرابحة ، وقد صرّح فيه البائع بزيادة في الثّمن من أجل الأجل ، فقد أفتى المتأخرون من الحنفية بأنه إذا قضى المديون قبل حلول الأجل ، أو مات قبله فإن البائع لايأخذ من الثمن إلا بمقدار ما مضى من الأيام ، ويحط من دينه ما كان بإزاء المدة الباقية . قال الحصكفي في الدرالمختار :

     «قضى المديون الدين المؤجل قبل الحلول أو مات ، فحلّ بموته ، فأخذ من تركته لايأخذ من المرابحة التي جرت بنهما إلا بقدر ما مضى من الأيام ، وهو جواب المتأخرين ، قنية ، وبه أفتى المرحوم أبو السعود آفندي مفتي الروم ، وعلله بالرفق للجانبين» .

     وقال ابن عابدين تحته :

     «قوله «لايأخذ من المرابحة» : صورته : اشترى شيئًا بعشــرة نقدًا ، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة (أشهر) أو مات بعدها يأخذ خمسة ، ويترك خمسة» (9)

     وقد ذكرت هذه المسئلة بعينها في تنقيح الفتاوى الحامدية ، وفيها من الزيادة ما يلي :

     «سئل فيها إذا كان لزيد بذمة عمرو مبلغ دين معلوم ، فرابحه عليه إلى سنة ، ثم بعد ذلك بعشرين يومًا مات عمر المديون ، فحل الدين ودفعه الورثة لزيد ، فهل يؤخذ من المرابحة شيء أو لا ؟

     الجواب : جواب المتأخرين أنه لايؤخذ من المرابحة التي جرت المبايعة عليها بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيّام . قيل : للعلامة نجم الدين : أتفتي به ؟ قال : نعم ، كذا في الأنقروي والتنوير . وأفتى به علامة الروم مولانا أبو السعود» (10)

     وإن هذه الفتوى من متأخري الحنفيّة تفرّق بين بيوع المساومة وبيوع المرابحة التي يصرح فيها البائع بزيادة الثمن بسبب الأجل ، فلايجوز «ضع وتعجّل» في بيوع المساومة كما أسلفنا ، ويجوز في بيوع المرابحة . ولعلّهم أفتوا بذلك على أساس أن الأجل وإن لم يكن صالحاً للاعتياض عنه على سبيل الاستقلال ، ولكن يجوز أن يقع بإزاءه شيء من الثمن ضمنًا وتبعًا ، كما أنه لايجوز بيع الحمل في بطن البقرة ، ولكن يجوز أن يزاد من أجله في قيمة البقرة ، فما لايجوز بيعه مستقلاً قد يجوز الاعتياض عنه تبعًا . ولمّا كان أساس المرابحة على بيان قدر من الرّبح ، جاز أن يكون شيء من الربح بإزاء الأجل. فصار الأجل كأنه وصف في المبيع ، فلمّا انتقص ذلك الوصف بأداء الدين قبل الحلول ، أو بسبب حلوله بموت المديون ، انتقص الثمن بقدره وإلى هذا المعنى أشار ابن عابدين في تعليل هذه المسئلة، فقال :

     «ووجه أن الربح في مقابلة الأجل ، لأن الأجل وإن لم يكن مالاً ولايقابله شيء من الثمن ، لكن اعتبروه مالاً في المرابحة إذا ذكر الأجل بمقابلة زيادة الثمن ، فلو أخذ كل الثمن قبل الحلول ، كان أخذه بلا عوض» (11)

     وهذا التوجيه ، وإن كان فيه شيء من الوزن، ولكنه مخالف للدلائل التي أسلفناها في منع «ضع وتعجّل» فإنّها وردت في كل دين مؤجل ، دون فرق بين المساومة والمرابحة ، وإن العمل بهذه الفتوى قد يجعل المرابحة والبيع بالتّقسيط أكثر مشابهة بالمعاملات الرّبويّة . التي يتردّد فيها القدر الواجب في الذمّة ما بين القليل والكثير مرتبطا بالآجال المختلفة للأداء . فلا أرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتّقسيط ، ولا في المرابحات التي تجربها المصارف الإسلامية . والله سبحانه وتعالى أعلم .

حلول الدين بالتقصير في أداء بعض الأقساط

     وقد تنص بعض اتفاقيات البيع بالتّقسيط على أن المشتري إذا لم يؤدّ قسطاً من الثمن في موعده المحدد ، فإن بقيّة الأقساط تصير حالّة ، ويجوز للبائع أن يطالب بها في الحال مجموعة . فهل يجوز هذا الشرط ؟

     وقد ذكرت هذه المسئلة في بعض كتب الحنفية، فجاء في خلاصة الفتاوى :

     «ولو قال : كلّما دخل نجم ولم تؤدّ ، فالمال حالّ ، صحّ ويصير المال حالاً» (12)

     وقد ذكرت هذه المسئلة في الفتاوى البزازية محرّفة لايستقيم بها المعنى ، ونبّه على ذلك الرملي في حاشيته على جامع الفصولين ، فقال :

     «في البزّازية : وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد ، بأن قال : كلّما حلّ نجم ولم تؤد فالمال حالّ صح وصار حالاً اهـ وعبارة الخلاصة : وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد . ولو قال : كلّما دخل نجم ولم تؤد ، فالمال حالّ صح ، والمال يصير حالاً اهـ فجعلها مسئلتين وهو الصواب ، والله أعلم. ذكره الغزى» (13)

     وإن هذه النصوص الفقهية تدل على جواز مثل هذا الشّرط . حينئذ ، إذا قصّر المشتري في أداء بعض الأقساط عند حلول موعدها ؛ جاز للبائع أن يطالبه ببقية الأقساط حالّة . ولكن مقتضى ما ذكرناه عن بعض المتأخرين من الحنفيّة في مسئلة المرابحة السابقة أن لايطالبه من ربح المرابحة إلا بقدر ما مضى من الأيام . فمن أخذ بتلك الفتوى ، فليأخذ بها في هذه المسئلة أيضاً ، ومن لم يأخذ بها كما هو المناسب في رأينا ، فإنّما يفتى بحلول الثمن بكامله عند التقصير في أداء بعض الأقساط ، والله سبحانه أعلم .

مسئلة التعويض عن ضرر المطل

     وهناك مسئلة أخرى تتعلق بالبيع المؤجل ، وهي أنّ المشتري المديون ربّما يقصّر في أداء دينه عنـــد حلول الأجـــل ، أو في أداء بعض الأقساط في موعدهـــا . فإن كان هذا التقصير من أجل إعساره، فقـــد بيّن القـــرآن الكريم حكمه واضحًا ، وهو قوله تعالى : ﴿وَإِنْ كَانَ ذُوْعُسْرَةٍ فَنَظْرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ﴾ يعني: يجب على الدائن في هذه الحال أن يمهله إلى أن يزول إعساره ويتمكن من أداء دينه ، ولايجوز للدائن أن يضيف إلى دينه شيئًا ، فإنه ربا صراح لاشبهة فيه .

     ولكن التقصير في أداء الدين ربّما يكون على وجه المماطلة بدون عذر الإعسار ، ولقد نشاهد اليوم أنّ النّاس قد انتقص فيهم الوازع الدينيّ والخلقيّ ، وقد انخفض فيهم مستوى الدّيانة والأمانة، فلايحتفل كثير منهم بمسؤوليتهم في أداء الدين في موعده ، فيتضرر الدائن بمماطلته ضررًا بيّنًا . وإن مشكلـة المماطلة يواجهها اليوم كل دائن، ولكنّ ماتعانيه المصارف الإسلامية من الأضرار بسبب المماطلة أكثر وأبشع . وذلك لأن النّظام الربويّ يلعب فيه سعر الفائدة دورًا فعّالاً في الضغط على المديون بأداء دينه في موعده ، لأنه إذا قصّر فيه بشكل أو آخر، تضاعفت الفائدة عليه بصورة تلقائية . وبما أن الدين لايمكن الزيادة فيه شرعًا بسبب التقصير أو المماطلة ، فإن الدائن ربّما يستغل هذا الوضع ، ويستمر في مماطلته إلى ما يشاء . ومعلوم أن لعنصر الوقت أهميّة بالغة في النظام التجاري اليوم ، وخاصّة في النظام المصرفيّ المعاصر، فهل هناك من سبيل لدفع ضرر المماطلة من الدائنين، وخاصّة عن المصارف الإسلامية ؟

     والذي أعتقد أنّ هذه المسئلة لاتحدث مشكلة كبيرة إن كانت جميع المصارف في البلاد تتّبع طريقةً شرعيةً موحدةً ، وذلك لأن مثل هذا المماطل يجوز أن يعاقب بحرمانه عن الانتفاع بالتسهيلات المصرفيّة في المستقبل ، فيُحمل اسمه في قائمــــة سوداء ، ولايتعامل معه أيّ مصرف في الدولة . وإن مثل هذا التهديد يؤثر في الضغط عليه بالوفاء أكثر مما يؤثر سعر الفائدة . وكذلك يجـــوز شرعًا أن يعزر هذا المماطل بعقوبات شرعيّة أخرى ، لقوله : «مطل الغنيّ ظلم» (14) وقوله :

     لَيُّ الواجد يُحل عقوبته وعِرضه(15)

     واللّيُّ معناه : المطل ، والواجد بمعنى الغنيّ.

     ولكن الطريقة الأولى (وهي إدراج اسم المماطل في قائمة سوداء) إنما تؤثر إذا كانت المصارف كلها تتبع طريقة واحدة ، والطريقة الثانية (وهي التعزير والعقوبة) تحتاج إلى محاكم سريعة تحكم بصفة عاجلة .

     وحيث أن كلا الأمرين مفقود في كافة البلاد الإسلاميّة ، فإنّ هذا الحلّ الأساسي لمشكلة المماطلة ليس بيد المصارف الإسلامية اليوم .

     ومن أجل هذا قد اقترح بعض العلماء المعاصرين أن يُلزَم مثل هذا المماطل بالأداء إلى الدائن عوضًا ماليًا عن الضرر الفعلي الذي ألحقه بسبب مماطلته . وقدرت بعض المصارف الإسلامية هذا الضرر الفعليّ على أساس نسبة الربح التي أدتها تلك المصارف فعلاً خلال مدة المماطلــة إلى مودعيها في حساب الاستثمار. فإن لم يكن في حساب الاستثمار في تلك المدة ربح ، لم يطالب المديون بأي تعويض ، فإن كان هناك ربح ، فإنه يطالب بنسبة ذلك الربح الفعلي الذي حصل في تلك المدة .

     وقد فرق هؤلاء العلماء بين التعويض وبين الفائدة الربوية بالفَوارق التالية :

     1- إن الفائدة الربوية تلزم المديون في كلّ حال، سواء كان معسرًا أو موسرًا . أما التعويض فلايلزمه إلا إذا ثبت كونه موسرًا مماطلاً . ولئن ثبت كونه معسرًا ، فلايلزم بأداء أيّ تعويض .

     2- إن الفائدة الربوية تلزم المديون فور تأخيره في الأداء، سواء كان التأخير لمدة يوم واحد. أمّا التعويض فلايلزمه إلا إذا ثبت كونه مماطلاً، والمعمول به في بعض المصارف الإسلاميّة أن المصرف يرسل إلى المديون أربع إخطارات اسبوعيّة بعد حلول الأجل قبل أن تكلّفه بأداء التعويض . فلايلزمه التعويض إلا بعد انتظار شهر من حلول الأجل .

     3- إن الفائدة الربويّة تلزم المديون في كل حال ، وإن التعويض المقترح لايجب على المديون إلا إذا تحققت في مدة مماطلة أرباح في حساب الاستثمار عند المصرف ، فإن لم تتحقق هناك أرباح، فإن المديون لايطالب بأي تعويض .

     4- إن الفائدة الربوية نسبتها معلومة للجانبين منـذ أول يوم من الدخول في اتفاقية الدين ، أما التعويض، فلايمكن معرفة نسبته عند الدخول في اتفاقية المرابحة أو الإجارة ، وإنّما تتعيّن هذه النّسبة على أساس نسبة الأرباح الفعليّة التي سوف تتحقق خلال مدّة المماطلة .

     وعلى أساس هذه الفوارق الأربعة ، يقول هؤلاء العلمــاء المعاصرون : إنّ هذا التعويض لاعلاقة له بالفوائد الربويّة ، ويستدلّون على جواز مثل هذا التعويض بقوله : «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ» (16) وبقوله : «لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه» قائلين بأن هذا التعويض عقوبة مالية يعاقب بها المماطل.

     وإن هذا الرأي المعاصر في جواز التعويض فيه نظر من وجوه مختلفة ، بعضها نظريةوبعضها عملية.

     أما من جهة النّظر، فإن مشكلة المماطلة ليست مشكلة جديدة قد حدثت اليوم ، وإنما هي مشكلة لم يزل التّجّار يواجهونها في كل عصر ومصر، وكانت المشكلة موجودة في عهد النبي الكريم ، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم وفي العصــور اللاحقة ، ولكنه لايوجد في شيء من الأحاديث أو الآثار ما يدل على أن هذه المشكلـــة قـــد التُمس حلّها بفـــرض التعويض على المماطل ، ولم أجد في الفقهاء والمحــدثين طوال أربعة عشر قرنًا مَن حَكم أو أفتى بفرض مثل هذا التعويض ، بل وجدت ما يخالفه كما سأذكره إن شاء الله تعالى .

     أما الاستدلال بحيث «لاضرر ولاضرار» ، فلاشك أن إضرار الغير حرام بهذا النص ، وكذلك يدلّ هذا النصّ على إزالة الضّرر بطريق مشروع ، ولكن لايجب أن يزال كل ضرر بالتعويض الماليّ ، ولايـــدل النّص ، صـــراحــةً أو إشارةً ، على أنّ إزالــة ضرر المطل يكون بالتّعويض . ولوكان هذا النصّ يدلّ على أن ضرر المماطل يزال بفرض المال عليـــه ، لكان ذلك واجبًا ، ولوجب على كل قاض أن يقضي بذلك، وعلى كل مفت أن يفتي به ، ولكنـــه لايوجد في التاريخ قاض أو مفت حكم أو أفتى بذلك ، مع كثرة قضايا المطل في كل عصر ومصر.

     ثم إن ضرر الدائن المعترف به شرعًا ، هو أنه لم يدفع إليه مبلغ الدين في وقته الموعود ، وإزالة هذا الضرر أن يسلّم إليه ذلك المبلغ الذي هو حقّه، وليس من حقّه المشروع مايزيد على مبلغ الدين ، فإنه ربا ولمّا ثبت أن الزائد من الدّين ليس من حقه، ففوات هذا الزيادة ليس ضررًا معتبرًا عند الشرع ، فلايزال ضرره إلا بقدر حقه .

     أما القول بأن الــدائن لو حصل على مبلغ دينه في وقته الموعود ، لربح فيــــه الأرباح ، ففـــوات هذه الأرباح ضرر ينبغي أن يزال من قبل من تسبب لهــــذا الضرر فإن هــــذا القول مبنيّ على اعتبار الرّبح المتوقع من النقود ربحًا حقيقيًا ، وعلى أن النقـــود مدرّة للربّح في نفسها بحساب كلّ يوم . وإن هذا المبدأ إنّما أقرّبه النظريات الربوية ، ولا عهد بــه في الفقـــه الإسلاميّ . ولو كان هذا المبدأ معتبرًا في الإسلام ، لكان الغاصب والسارق أولى بتطبيقه عليه ، ولكن لايوجد في تاريخ الفقه الإسلامي أحد ذهب إلى فرض التعويض الماليّ على غاصب النقود أو سارقها لكونه فوت ربحها على المغصوب منه في مدة الغصب ، وقد فرضت الشريعة الإسلامية عقوبــــة قطع اليد على السّارق ، ولم تفرض عليه أيّ تعويض ماليّ بالإضافة إلى النقود المسروقة . وهذا دليل على أن المبدأ المذكور لاتقرّه الشريعة الإسلامية.

     وإنّ المديون الماطل لايتجاوز من أن يكون غاصبًا أو سارقًا ، فغاية ما يتصور في حقّه أن تجرى عليه أحكام السّرقة والغصب ، ولم تفرض الشريعة الإسلامية أي تعويض على السّارق أو الغاصب من أجل النقود المغصوبة ولاشكّ أن كلاً من السّارق والغاصب قد أحدث ضررا على المالك ، لا في حرمانه من أصل ماله فقط ، بل في فوات الربح المتوقع منه أيضا . ولكن الشريعة الإسلامية قد أمرت بإزالـــة هــذا الضرر بردّ المال المسروق إلى المالك فقط ، وبعقوبة الجاني في جسمه أو عرضه ، فتبين أن فوات الربح المتـــوقع ليس ضــــررًا معوّضًا عليه في الشرع .

*  *  *

الهوامش :

(1)     المدونة الكبرى 11 : 27 آخر كتاب الصلح .

(2)     تحرير الكلام في مسائل الالتزام ، للحطّاب ص 231 ، وراجع أيضا فتح العلى المالك 1 : 289 و 290 .

(3)     المسوّى مع المصفّى 2 : 382 .

(4)     المدونة الكبرى 11 : 27 آخر كتاب الصلح .

(5)     المغني لابن قدامة ، مع الشرح الكبير 4 : 354 .

(6)   عمدة القاري للعيني 6 : 60 و 61 ، كتاب الاستقراض باب إذا أقرضه إلى أجل مسمّى ، وراجع أيضا أحكام القرآن للجصاص 1 : 483 تحت آية المداينة ، وفتح الباري 5 : 66، والمسوى مع المصفى 2 : 382 ، وتنقيح الحامدية 1 : 277 و 278 ، وشرح المجلة للأتاسي 1 : 439 .

(7)     أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه ، وهذا لفظه في الخصومات ، باب في الملازمة ، حديث 2424 .

(8)     أحكام القرآن للجصاص 1: 467 تحت آية الربا .

(9)   رد المحتار لابن عابدين 6 : 757 آخر الحظر والإباحة ، قبيل كتاب الفرائض . وقد ذكرت هذه المسئلة في البيوع قبيل فصل في القرض أيضا ، وذكر فيه أنه قد أفتى به الحانوتي ونجم الدين وأبو السعود وغيرهم 5 : 160 ، والمسئلة مذكورة في حاشية الطحطاوي على الدر 3 : 104 و 4 : 363 أيضا.

(10) تنقيح الفتاوى الحامدية 1 : 293 ، والمسئلة مذكورة في شرح المجلّة للأتاسي 2: 455 أيضًا .

(11) رد المحتار 6 : 757 قبيل كتاب الفرائض .

(12) خلاصة الفتاوى 3 : 54 طبع لاهور ، كتاب البيوع .

(13) الفوائد الخيرية على جامع الفصولين 2 : 4 طبع الأزهرية مصر 1300هـ .

(14) صحيح البخاري ، كتاب الاستقراض ، رقم 2400 .

(15) ذكره البخاري في الاستقراض تعليقاً ، وأخرجه أبوداود والنسائي وأحمد وإسحاق في مسنديهما عن عمرو بن الشريد رضي الله عنه ، وإسناده حسن ، كما صرح به الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5 : 62 .

(16) الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلاً ، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني بطريق فيه جابر الجعفي ، وابن أبي شيبــــة من وجـــه آخر أقوى منه ، والدار قطني من وجه ثالث، وراجع المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 468) وحسنّه النووى ، والمناوى في فيض القدير 6 : 432 لتعدد طرقه .

 

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.